معرض

“اللى خايفة من التحرش .. تروح تنتخب ليه”!!


ضيفًا على احدى القنوات كان الروائي الكبير وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان: يوسف القعيد، معلقًا على العملية الانتخابية، ومسجلاً لمشاهداته حولها؛ من بين هذه المشاهدات ما هاله من تخصيص لجنتين للسيدات فى احدى المناطق، وهو ما استنكره واصفًا اياه بـ “التمييز على أساس الجنس”، ومحذرًا (جادًا) من تطوره فى انتخابات لاحقة إلى تخصيص لجان للمسلمين واخرى للمسيحيين (تمييز على أساس الدين)! وتخصيص لجان للنوبيين وثانية للأمازيج وثالثة لعرب سيناء (تمييز على أساس العرق)! ثم قال حاسمًا: إن المرأة والرجل امام الدستور والقانون مواطن. فلما اوضحت له مضيفته أن هذا الإجراء إنما جاء بناءً على رغبة الناخبيين أنفسهم، أكد على ضرورة الحوار والنقاش مع هؤلاء، وروى تجربته مع إحداهن التى ارجعت ذلك إلى الرغبة فى تجنب مضايقات الرجال وتحرشهم بهن، فما كان من عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان إلا أن اجابها متسائلاً: “اللى خايفة من التحرش .. تروح تنتخب ليه”!!!!

ثم يستطرد فى حديثه حتى يستنكر ايضًا تخصيص عربات فى مترو الأنفاق للسيدات، مؤكدًا أن قبول المرأة لذلك يدينها!!!

بداية فإن مخاوف الأستاذ القعيد من هذا التحول الدراماتيكي للتمييز لا محل لها ولا مبرر، إذ أن ما يُعرف بالتمييز فى واقع الأمر لا يتطور على النحو الذى يحذر منه، فصور التمييز ليست متلازمة، ولا يستدعى بعضها بعضًا، فالمجتمعات التى تمارس صورًا من التمييز ليس من الضروري أن تنخرط فى ممارسة صور أخرى.

غير أن المشهد الصادم للروائى الكبير والذى يصفه بـ “التميز على أساس الجنس” له أسبابه التى لا يمكن أن تبرر أو تمهد لمثل هذه التخوفات. بل هو فى ذاته يعد سمة للتجمعات على اختلاف انتماءاتها الدينية والعرقية فى المجتمع المصرى، مما يعكس تماسكه وتمسكه بعرى مشتركة من الاعراف والتقاليد تنقض هذه المخاوف وتأتى عليها.

ولكن هل الموقف الذى يستنكره عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان يمثل بالفعل صورة من صور “التمييز على أساس الجنس”؟!

لأن التعبير تعبيرًا حقوقيًا، فيجب أن نعود فى تعريفه إلى مرجع حقوقي، واعنى به اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو”، التى اطلقتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979، والتى تعد المرجعية الحقوقية فى هذا الصدد، وبها يُعرف التمييز ضد المرأة بأنه:

“أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه، إضعاف أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو إضعاف أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.”

فإذا كنا بصدد الحديث عن الممارسة الانتخابية فإن حق المرأة هنا يتمثل فى حقها فى الادلاء بصوتها، وهو ما لم يقيده أو يضعفه أو يحبطه هذا الاجراء، بل على النقيض من ذلك وفر لها ممارسة هذا الحق فى اجواء اكثر تيسيرًا وتشجيعًا على المشاركة، خاصة لمن لديهن تحفظ حول الزحام المختلط، وبما لا يُقِع  ضررًا على ناخبيين آخريين أو ينتقص من حقوقهم!!

إن المنطق والرشد يقران حقًا للمرأة فى الممارسة الانتخابية، كما يستنكران تعرضها لإيذاءٍ يَمس كرامتها (ولن استخدم تعبير حَياء .. فهو تعبير غير “حقوقي”!)، وهو ما يُفترض معه أن يأتى الأداء الحقوقي مترجَمًا فى الحرص على الأول واستنكار الثاني، والعمل على تفادي الثاني لإحقاق الأول، ولكن يُفجعنا (وليس يُدهشنا) رد الحقوقي الكبير إذ يتسائل بإستهانة: “اللى خايفة من التحرش .. تروح تنتخب ليه”!!!

مرْد ذلك لإشكالية فى فَهمنا لا محالة، فمنطق الحقوقيين يبدو مختلفًا، وأولوياتهم مختلفة ايضًا، فالحرص على الاختلاط مقدم على ممارسة الحق الانتخابي، فإذا ما تعارضا قُدِم الأول وإن اختلط بإنتهاكات تمس كرامة المرأة، فالإختلاط ايضًا يعلو الكرامة على سُلَم الأولويات الحقوقي!

ويستند الأديب الكبير فى حيثيات إنكاره للمشهد أن النظرة القانونية والدستورية للرجل والمرأة “مواطن”، والحق أن النظرة القانونية لم تكن لتُغفل ما بين الرجل والمرأة من اختلافات طبيعية، وشواهد ذلك من الدستور والقانون كثيرة، ولا تقتصر على التشريعات المستمدة من الشريعة الإسلامية، وإنما  تمتد لقوانين العمل والتأمينات الإجتماعية وغيرها مما يضيق المقام بذكره، كما أن القانون وبنظرة حقوقية أوجد المجلس القومي للمرأة، وبذات النظرة حدد لها كوتة برلمانية، وغير ذلك مما يراه الحقوقيون تميزًا “ايجابيًا” يحل منهم محل الرضا، ولكنه قطعًا يبطل كون الرجل والمرأة “مواطن” بلا تمييز، ويُحيل الأمر إلى الاختلاف حول تقييم هذا التمييز.

ومما يسترعى الإنتباه ويحق لنا أن نقف عنده طويلاً أن الحقوقي يفترض بل ويفرض رؤيته هو للحقوق وللانتهاكات، بالمنطق الفرعوني الخالد: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”!!!

أروع تجليات المنطق الحقوقي ما جاء على لسان الروائى الكبير بانكاره تخصيص عربات فى مترو الانفاق للسيدات، بل وإدانته للمرأة إذ ارتضت ذلك!! أو هو اللامنطق الذى يأمر بكوتة للمرأة فى مقاعد البرلمان، وينكر عليها كوتة فى مقاعد مترو الأنفاق.

يُعجزنى أن أبين للروائي الكبير الذى يغوص فى النفس البشرية، والحقوقي القدير الذى يذود عن الكرامة الإنسانية، ذلك الأذى الواقع على هذه “المدانة”!!

رحم الله ابا الطيب إذ يقول:

وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ ..  إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ

ولكن هل من سبيل لإقناع الأستاذ القعيد إذا ما علم أن هذا أمرًا فطريًا “تُدان به كل نساء الأرض، وأننا لم نأتى شيئًا فريًا فى مصر بتخصيص عربات للسيدات، وأن اليابان هى أول من فعل، وحذا حذوها البلدان التى ترتفع فيها معدلات الزحام، وتضج خطوطها بالراكبين: الهند، وايران، والبرازيل، والمكسيك، وإندونسيا، والفلبين، وكوريا، ودبى.

هل يحتاج الحقوقي أن يعلم أن حق المواطن على الدولة أن تحفظ له كرامته داخل مرافقها؟

وإنه فى المجتمع الحر الذى ينشده .. قوله:

“اللى خايفة من التحرش .. تروح تنتخب ليه”!!

هو قول يدينـــــــــــــــــــــــه.


أضف تعليق