معرض

بن طولون، والنائب المسيحى .. وصدمتى!!


صدمنى استعراض لأراء البعض من “هيئة كبار العلماء” فى شأن تولى مسيحي منصب نائب الرئيس، أوردته صحيفة اليوم السابع.

صدمتى ليس مبعثها افتقار عضو هيئة “كبار العلماء” للوعى السياسي الذى يمكنه من ادراك مغبة هذا الأمر سياسيًا، من استحداث لنظام الكوتة داخل المؤسسة الرئاسية، وتكريس لطائفية لا عهد لنا بها ويرفضها عقلاء المسيحيين، وما يتبعه من استفزاز لقطاع عريض من مؤيدي الرئيس وممن منحوه أصواتهم وإثارة لسخطهم مما يؤثر بالسلب على رصيده الجماهيري، فى الوقت الذى لن يمنحه رصيد مقابل لدى الفئة المسترضاه، وفى هذا خصم من الدعم الشعبي للرئيس وتهديد للاستقرار، الاستقرار الذى يتهدده كذلك تشكيل ليس فقط غير متآلف للمؤسسة الرئاسية، بل لا أكون مبالغة إذا اسميته تشكيل متنافر، وبالتالى متآكل، ولا ينتظر عاقل من بعد معارك استقطابية بلغت فيها الخصومة مداها من اليوم الأول وحتى اليوم الأخير أن يبذل النائب المنتظر جل جهده لانجاح مشروع الرئيس، وهو المشروع والتجربة المعادية (هكذا يعتقد).

صدمتى ليس مبعثها غياب فقه الواقع، ويمكننى فى المقابل القبول برأى شرعي مجرد، وهذا هو منبع صدمتى، وحسرتى، وذهولى حين أقرأ:

«أكد الدكتور عبد المعطى بيومى، عضو هيئة كبار العلماء، أن المعترضين على تولى مسيحى نائباً للرئيس لا يعرفون شيئاً على الإطلاق عن التعامل الإسلامى فى هذه المسألة، أولاً التاريخ الإسلامى فى عز ازدهاره فى الدولة العباسية، وفى المصرية القديمة أيام أحمد بن طولون كان المسيحيون هم من يتولون الحسابات فى الدولة، وكان لهم المكان الثانى بعد الخليفة، وأنا متأكد لو قرأوا سيرة عمر بن الخطاب لوجدوا أنه كان لديه عاملاً مسيحياً كان يخدمه وظل يخدمه طول عمره إلى أن مات فكيف لا نأتمن غير المسلمين وهم شركاؤنا والوثيقة التى أبرمها الرسول فى المدينة عليهم أن يتعلموا منها، وقد قال الرسول فيها أكثر من مرة لهم مالنا وعليهم ما علينا، فالإسلام لا يميز بين المسلم وغير المسلم فى الاستعانة بأى واحد غير مسلم وأذكرهم بالرسول نفسه إذا كان قد اتخذ دليلاً له فى طريق الهجرة من مكة للمدينة مشركاً وليس مسيحاً ولا يهوديا، لكنه وجده أكفأ من غيره فكيف يتجرأون على الإسلام، فهم يسيئون له ولوطنهم والى أنفسهم.»

■ صدمتى أن يخلو الرأى الشرعي من النص، بينما يستند إلى أخبار ما لها من سند!

■ صدمتى ان يكون الدليل هو تاريخ الدولة الطولونية!! وكأننى أستطيع أن أحتج (قياسًا) بملء فمى على من يدعون إلى التيسير وعدم المغالاة فى المهور، فأقول لهم: أما قرأتم عن المهر الذى قدمه الخليفة العباسي للزواج من “قطر الندى”؟!

وأولئك الذين ينادون بتجنب الإسراف والبهرجة فى حفلات الزفاف لعله مقبولاً أن أقول لهم: خسأتم أما قرأتم تاريخ الدولة الطولونية؟! أما قرأتم عن الزفاف الأسطوري لحفيدة بن طولون؟!

ومع هذا فإن التاريخ الإسلامي الدليل والمرجع والمستشهد به، لم يشهد فى أوج إزدهاره، أو فى غور انحساره نائبًا لرأس الدولة من غير المسلمين.

■ صدمتى أن ألمس هذا الطمس المتعمد والالتفاف على السؤال، حين يكون السؤال عن موقع “نائب الرئيس” فيأتى الجواب مستشهدًا باستعمال عامل أو استكتاب كاتب! وبين هذا وذاك فارق من العسير تقبل غياب إدراكه عن عضو فى هيئة “كبار العلماء”!

وهذا الطمس الذى يساوى بين العامل والكاتب وبين “نائب” الرئيس يمتد حتمًا للمنصب الرئاسي ذاته، فعلة السؤال فى كون النائب قد يحل محل الرئيس فى وقت ما، وليست العلة فى جواز ممارسة غير المسلم لوظيفة ما داخل الدولة.

■ صدمتى أن أفشل وأنا أبحث فى سيرة عمر (رضى الله عنه) عن هذا العامل المندس، بينما أطالع ما صح عنه وذكره بن تيمية فى مجموع الفتاوى (25/326):
“عن أبى موسى قال: قلت لعمر: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك قاتلك الله، أما سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ألا اتخذت حنيفيا ؟ .. “

وما صححه الألبانى فى إرواء الغليل (8/255):
“أن أبا موسى رضي الله عنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومعه كاتب نصراني فأعجب عمر رضي الله عنه ما رأى من حفظه فقال قل لكاتبك يقرأ لنا كتابا قال إنه نصراني لا يدخل المسجد فانتهره عمر رضي الله عنه وهم به ..”

وجاء فى الأثر وذكره ابن كثير فى تفسيره (2/107):
“قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو أيوب محمد بن الوَزَّان، حدثنا عيسى بن يونس، عن أبي حَيّان التيمي عن أبي الزِّنْباع، عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين”.

■ صدمتى أن يُستدلل بـ “وثيقة المدينة” والتى لم يأتى على أثرها نائب للرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا لخلفاءه من بعده من غير المسلمين، ولا تبوأ أحدهم بمقتضاها منصبًا فى الدولة أعلى من ذلك ولا أدنى.

وأى صدمة عندما يستدل بنص وثيقة أُبرمت قبل اربعة عشر قرنًا من الزمان بما لا يحمله نصها، وبما لم يخطر فى ذهن أصحابها، وبما لم يفسره تطبيقها!!

الأكثر صدمة أن العبارة المُستدل بها (والتى قيل بذكرها أكثر من مرة): “لهم مالنا وعليهم ما علينا” لم ترد فى نص الوثيقة ولا مرة!!

■ صدمتى أن يُقال أن الإسلام لا يفرق فى الإستعانة بين المسلم وغير المسلم (هكذا على اطلاقها)، استشهادًا بإستعانة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالدليل “عبد الله بن اريقط” فى رحلة الهجرة، عندما “سبقه” إلى المدينة كل من يستطيع الهجرة من المسلمين حتى خلت منهم مكة، فالإستعانة بالدليل المشرك إنما كانت لحاجة حالت الظروف حينها دون توافرها فى بديل مسلم، ولاعتبار طبيعة المهمة التى كُلف بها.

والأمر ليس مطلقًا على هذه الصورة بصحيح ما رُوى عن عائشة (رضى الله عنها) وأخرجه أبو داود فى سننه، وبن ماجة فى صحيحه، وبن حزم فى المحلى، والسيوطي فى الجامع الصغير، وصححه الألباني فى صحيح الجامع:

“إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه فقال ارجع فقال إنا لا نستعين بمشرك”.

■ صدمتى أن يأتى بعد جميع ما سبق اتهام للمخالف بأنه يتجرأ على الإسلام!! وإنه يسئ إليه!!

نُشر فى رابطة النهضة والإصلاح.

أضف تعليق